الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تدريب الرَّاوي في شَرْح تَقْريب النَّواوى ***
هو فنٌّ جَليلٌ, وإنَّما يُحقِّقهُ الحُذَّاق, والدَّارَقُطْني منهم, ولهُ فيه تَصْنيفٌ مُفيدٌ, ويَكُون تَصْحيف لفْظٍ وبَصَرٍ في الإسْنَاد والمَتْن, فمن الإسْنَاد: العَوَّام بن مُرَاجم, بالرَّاء والجيم, صحَّفهُ ابن مَعِين, فقالهُ بالزَّاي والحَاء. ومن الثَّاني: حديثُ زَيْد بن ثابت أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم احتَجَرَ في المَسْجدِ. أي: اتخذَ حُجْرَة مِنْ حَصيرٍ, أو نحوه يُصلِّي فيها, صحَّفهُ ابن لَهِيعة فقال: احتجَمَ. النَّوعُ الخامس والثلاثون: معرفة المُصحَّف. هو فنٌّ جليل مهم وإنَّما يحققه الحُذَّاق من الحُفَّاظ والدَّارقطني منهم, وله فيه تصنيف مفيد وكذلك أبو أحمد العسكري. وعن أحمد أنَّه قال: ومن يعرى عن الخطأ والتصحيف. ويكون تَصْحيف لفظ ويُقَابله تصحيف المعنى وبصر ومقابله تصحيف السَّمع. ويَكُون في الإسْنَاد والمَتْن, فمن التَّصحيف في الإسْنَاد: العَوَّام بن مُراجم, بالرَّاء والجيم, صحَّفه ابن مَعِين فقاله مُزاحم بالزَّاي والحاء. وعُتبة ابن النُّدر, بالنُّون المَضْمومة والمْهملة المُشَدَّدة المفتُوحة, صحَّفه ابن جرير الطَّبري بالمُوحدة والمُعجمة. ومن الثَّاني أي: التَّصحيف في المَتْن حديث زيد بن ثابت أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم احتجرَ في المَسْجد وهو بالرَّاء أي: اتَّخذ حُجْرة من حصير, أو نحوهُ يُصَلِّي فيها, صحَّفه ابن لَهِيعة بفتح اللام وكسر الهاء فقال: احتجم بالميم. وحديثُ: «مَنْ صَامَ رَمَضانَ, وأتبعَهُ سِتًّا من شَوَّال...». صَحَّفهُ الصُّولي فقالَ: شيئًا, بالمُعجمة ويَكُون تَصْحيف سَمْع, كحديث عن عَاصم الأحْوَل رواهُ بعضهُم فقال: واصلٌ الأحْدَب, ويَكُونُ في المَعْنَى, كقول مُحمَّد بن المُثَنى: نحنُ قومٌ لنَا شَرفٌ, نحنُ من عَنزةَ, صَلَّى إلينَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. وحديث: «من صَامَ رمضان, وأتبعه ستا من شوَّال...» بالسين المُهملة والتاء الفوقية, لفظ العدد صحَّفه الصُّولي فقال: شيئا بالمُعجمة والتَّحتية. وحديث أبي ذر: «تُعين صَانعًا...». بالمهملة والنون, صحَّفه هِشَام بن عروة بالمُعجمة والتَّحية. وحديث مُعاوية: لعنَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الَّذين يُشققون الخُطَب. بالمُعجمة, صحَّفهُ وكيع بفتح المُهملة, وكذا صحَّفه ابن شاهين أيضًا, فقال بعض المَلاَّحين وقد سمعه, فكيف يا قَوْم والحاجة ماسَّة. وحديث: «أوْ شَاة تَيْعر...». بالياء التحتية, صحَّفه أبو مُوسَى محمَّد بن المُثنى بالنُّون. وصحَّف بعضهم حديث: «زر غِبًّا, تَزْدَد حُبًّا». فقال: زر عنًا, تزدد حنًا, ثمَّ فسَّره بأن قومًا كانُوا لا يُؤدُّون زكاة زُروعهم, فصَارت كلها حناء. ويَكُون تصحيف سَمْع بأن يَكُون الاسم واللَّقب, أو الاسم واسم الأب, على وزن اسم آخر, ولقبه, أو اسم آخر, واسم أبيه, والحروف مُختلفة شكلاً ونَقْطًا, فيَشْتبه ذلك على السَّمع. كحديث عن عاصم الأحْوَل, رَواهُ بعضهم, فقال: واصل الأحدب أو عكسه, وحديث عن خالد بن علقمة, رواه شُعبة فقال: مالك بن عرطفة. ويَكُون التَّصحيف في المَعْنَى, كَقول أبي مُوسى محمَّد بن المُثنى العَنْزي المُلقَّب بالزمن, أحد شُيوخ الأئمة السِّتة نحنُ قومٌ لنا شرف, نحن من عَنْزة, صلَّى إلينا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يريدُ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم صلَّى إلى عَنْزة فتوهَّم أنَّه صلَّى إلى قَبِيلتهم, وإنَّما العَنْزة هُنَا الحَرْبة تُنْصب بين يديه. وأعجب من ذلك ما ذكرهُ الحاكم, عن أعْرَابي, أنَّه زعم, أنَّه صلى الله عليه وسلم صلَّى إلى شاة, صحَّفها عَنْزة, بسكون النُّون, ثمَّ رواه بالمعنى على وهمه, فأخطأ من وجهين. ومن ذلك أنَّ بعضهم سمع حديث النَّهي عن التَّحليق يوم الجُمعة قبل الصَّلاة, قال: ما حلقتُ رَأْسي قبل الصَّلاة منذ أربعين سَنَة. فهمَ منه تحليق النَّاس حَلْقًا. قال ابن الصَّلاح: وكثير من التَّصحيف المَنْقُول عن الأكَابر الجلة, لهم فيه أعْذَار, لم ينقلها ناقلوه.
تنبيه: قسم شيخ الإسلام هذا النَّوع إلى قسمين: أحدهما: ما غُيِّر فيه النَّقط, فهو المُصحَّف. والآخر: ما غُيِّر فيه الشكل, مع بقاء الحُروف, فهو المحرف.
فائدة: أورد الدَّارقُطْني في كتاب «التَّصحيف» كل تصحيف وقعَ للعُلماء حتَّى في القُرآن. من ذلكَ ما رواهُ عُثمان بن أبي شَيْبة, قرأ على أصْحَابه في التَّفسير, جعل السَّفينة في رَحْل أخيه. فقيل لهُ: إنَّما هو: {جَعَلَ السِّقَايَةَ} [يوسف: 70] فقال: أنا وأخي أبو بكر لا نقرأ لعاصم. قال: وقرأ عليهم في التَّفسير: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ} قالها: ا ل م، يعني كأوَّل البقرة.
هذا فنٌّ من أهمِّ الأنْوَاعِ, ويُضطرُّ إلى مَعْرفتهِ جميعُ العُلَماء من الطَّوائف, وهو أن يأتي حَدِيثَان مُتَضَادَّان في المَعْنى ظاهرًا, فيُوفِّق بينهمَا, أو يُرَجِّح أحدهمَا, وإنَّمَا يكمُلُ لهُ الأئمةُ الجَامعُونَ بينَ الحَديثِ والفقه, والأصُوليون الغَوَّاصُونَ على المَعَاني, وصنَّفَ فيه الإمامُ الشَّافعيُّ ولم يَقْصد رحمهُ الله اسْتيفَاءه, بل ذَكرَ جُمْلةً يُنَبِّهُ بها على طريقه, ثمَّ صنَّف فيهِ ابن قُتَيبة, فأتَى بأشياء حَسَنة, وأشْيَاء غير حَسَنة, لِكَون غيرهَا أقْوَى وأوْلَى, وتركَ مُعْظَم المُختَلف. النَّوع السَّادس والثَّلاثون: معرفة مُختَلف الحديث وحُكمه. هذا فنٌّ من أهم الأنواع, ويضطرُّ إلى معرفته جميع العُلماء من الطَّوائف, وهو أن يأتي حديثان مُتضادَّان في المَعْنَى ظاهرًا, فيُوفِّق بينهما, أو يُرَجِّح أحدهما فيعمل به دون الآخر وإنَّما يكمل له الأئمة الجَامعُون بين الحديث والفِقْه, والأُصُوليون الغَوَّاصون على المَعَاني الدَّقيقة. وصنَّف فيه الإمام الشَّافعي وهو أوَّل من تكلَّم فيه ولم يقصد رحمه الله استيفاءه ولا إفرادهُ بالتَّأليف بَلْ ذكر جُمْلة منهُ في كِتَاب الأم يُنبه بها على طريقه أي: الجمع في ذلك. ثمَّ صنَّف فيه ابن قُتيبة, فأتَى فيه بأشياء حسنة, وأشياء غير حسنة قَصُرَ فيها باعهُ لِكَون غيرها أوْلَى وأقْوَى منها وتركَ مُعظم المُختلف. ثمَّ صنَّف في ذلك ابن جرير, والطَّحَاوي كتابه «مُشْكل الآثار». وكان ابن خُزَيمة من أحْسَن النَّاس كلامًا فيه, حتَّى قال: لا أعرفُ حديثين مُتضادين, فمن كان عندهُ فليَأتني به لأؤلف بينهما. ومَنْ جمعَ مَا ذكَرْنا لا يُشْكل عليه إلاَّ النَّادرُ في الأحيان, والمُختَلف قِسْمَان: أحدهما يُمكنُ الجَمْعُ بينهمَا, فيَتعيَّن ويجب العملُ بهمَا. ومن جمعَ ما ذكرنا من الحديث, والفقه, والأصُول, والغوص على المعاني الدَّقيقة, لا يُشكل عليه من ذلك إلاَّ النَّادر في الأحيان. والمُختَلف قِسْمان: أحدهما يمكن الجمع بينهما بوجه صحيح فيتعيَّن ولا يُصَار إلى التَّعَارض, ولا النَّسخ ويجب العمل بهما. ومن أمْثلة ذلك في أحاديث الأحْكَام, حديث: «إذَا بلغَ الماء قُلَّتين لم يَحْمل الخَبَث». وحديث: «خلقَ الله المَاء طَهُورًا لا يُنجسه شيء, إلاَّ ما غيَّر طَعْمه, أو لَوْنه, أو ريحه». فإن الأوَّل ظَاهرهُ طَهَارة القُلَّتين, تغيَّر أم لا, والثَّاني ظاهره طهارة غير المُتغيِّر, سواء كانَ قُلَّتين أم أقل, فخصَّ عُموم كل منهما بالآخر. وفي غَيْرها: حديث «لا يُوردنَّ مُمْرض على مُصح». و«فِر من المَجْذُوم فِرَاركَ من الأسَد». مع حديث: «لا عَدوَى, ولا طَيْرة». وكلها صحيحة. وقد سلكَ النَّاس في الجَمْع مَسَالك: أحدها: أنَّ هذه الأمْرَاض لا تُعدي بطبعها, لكن الله تَعَالى جعلَ مُخَالطة المَرِيض بها, للصَّحيح سببًا لإعدائه مرضه, وقد يتخلَّف ذلك عن سببه, كما في غيره من الأسْبَاب, وهذا المَسْلك هو الَّذي سلكهُ ابن الصَّلاح. الثَّاني: أنَّ نَفي العدوَى باقٍ على عُمومه, والأمر بالفِرَار من باب سدِّ الذرائع, لئلاَّ يَتَّفق للذي يُخَالطه شيء من ذلك بتقدير الله تعالى ابتداء, لا بالعَدْوى المَنْفية, فيَظُن أنَّ ذلكَ بسبب مُخَالطته, فيَعْتقد صحَّة العَدْوَى, فيقع في الحَرَج, فأمرَ بتجنبه حسمًا للمادة, وهذا المَسْلك هو الَّذي اختارهُ شيخ الإسْلام. الثَّالث: أنَّ إثبات العدوَى في الجُذَام ونحوه مخصوص من عُموم نفي العدوَى, فيَكُون معنى قولهُ: «لا عدوَى». أي: إلاَّ من الجُذام ونحوه, فكأنَّه قال: لا يعدي شيء شيئا, إلاَّ فيما تقدَّم تبييني له أنَّه يُعدي, قاله القاضي أبو بكر الباقلاني. الرَّابع: أنَّ الأمر بالفِرَار رعاية لخاطر المجذوم, لأنَّه إذا رأى الصَّحيح تَعْظُم مصيبته, وتزداد حسرتهُ, ويُؤيده حديث: «لا تُديموا النَّظر إلى المَجْذومين». فإنَّه مَحْمولٌ على هذا المعنى, وفيه مسالك أُخر. والثَّاني: لا يُمكن بوجْهٍ, فإنْ عَلمنَا أحدهُمَا ناسخًا قدَّمناهُ, وإلاَّ عملنا بالرَّاجح, كالتَّرْجيح بصفَاتِ الرُّواة وكَثْرتهم في خمسين وجها. و القسم الثَّاني لا يُمكن الجمع بينهما بوجه, فإن علمنا أحدهما ناسخًا بطريقة ممَّا سبق قدَّمناه, وإلاَّ عملنا بالرَّاجح منهما كالتَّرجيح بصفات الرُّواة أي: كَوْن رُواة أحدهما أتقن وأحفظ, ونحو ذلك مِمَّا سيذكر وكثرتهم في أحد الحديثين في خمسين وجهًا من المُرَجحات, ذكرها الحازمي في كتابه «الاعتبار في النَّاسخ والمنسوخ» ووصلها غيره إلى أكثر من مئة, كما استوفى ذلك العِرَاقي في «نكته». وقد رأيتها مُنْقسمة إلى سَبْعة أقْسَام: الأوَّل: التَّرجيح بحال الرَّاوي وذلك بوجُوه: أحدها: كثرة الرُّواة, كما ذكر المُصنِّف, لأنَّ احتمال الكذب والوَهْم على الأكثر, أبعد من احتماله على الأقل. ثانيها: قِلَّة الوسائط, أي: عُلو الإسْنَاد, حيث الرِّجال ثقات, لأنَّ احتمال الكذب والوهم فيه أقل. ثالثها: فقه الرَّاوي, سَوَاء كان الحديث مَرْويًا بالمعنى, أو اللفظ, لأنَّ الفقيه إذا سمع ما يمتنع حملهُ على ظاهره بحث عنه, حتَّى يطلع على ما يزول به الإشْكَال, بخلاف العامي. رابعها: علمه بالنَّحو, لأنَّ العالم به يتمكَّن من التحفُّظ عن مواقع الزَّلل ما لا يتمكَّن منهُ غيره. خامسها: علمه باللُّغة. سادسها: حفظهُ, بخلاف من يعتمد على كتابه. سابعها: أفضليتهُ في أحد الثَّلاثة, بأن يكونَا فَقِيهين, أو نَحَويين, أو حافظين, وأحدهما في ذلك أفضل من الآخر. ثامنها: زيادةُ ضبطه, أي اعتناؤه بالحديث, واهتمامه به. تاسعها: شُهرته لأنَّ الشُّهرة تمنع الشَّخص من الكذب, كما تمنعهُ من ذلك التقوى. عاشرها إلى العشرين: كونه ورعًا, أو حسن الاعتقاد – أي: غير مبتدع- أو جليسًا لأهل الحديث, أو غيرهم من العُلماء, أو أكثر مُجَالسة لهم, أو ذكرًا, أو حُرًّا, أو مشهور النَّسب, أو لا لبس في اسمه, بحيث يشاركه فيه ضعيف, وصعب التمييز بينهما, أو له اسم واحد, ولذلك أكثر ولم يختلط, أو له كتاب يُرجع إليه. حادي عشرينها: أن تثبت عدالته بالإخبار, بخلاف من تثبت بالتَّزكية, أو العمل بروايته, أو الرِّواية عنه, إن قلنا بهما. ثاني عشرينها إلى سابع عشرينها: أن يعمل بخبره من زكَّاه, ومعارضه لم يعمل به من زكَّاه, أو يتَّفق على عدالته, أو يُذكر سبب تعديله, أو يكثُر مُزكُّوه, أو يكُونوا عُلماء, أو كثيري الفحص عن أحْوَال النَّاس. ثامن عشرينها: أن يَكُون صاحب القِصَّة, كتقديم خبر أم سَلَمة زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم في الصَّوم لمن أصبحَ جُنبًا. على خبر الفضل بن العبَّاس في منعه, لأنَّها أعلم منه. تاسع عشرينها: أن يُبَاشر ما رواه. الثَّلاثون: تأخُّر إسلامه. وقيلَ: عكسه لقوة أصالة المُتقدَِّم ومعرفته. وقيلَ: إن تأخَّر موته إلى إسْلام المُتأخِّر, لم يرجح بالتأخير, لاحتمال تأخُّر رِوَايته عنهُ, وإن تقدَّم, أو علم أن أكثر رُواياته مُتقدِّمة على رواية المُتأخِّر رُجِّح. الحادي والثَّلاثون إلى الأرْبعين: كونهُ أحسن سِيَاقًا واستقصَاء لحديثه, أو أقرب مكانًا, أو أكثر مُلازمة لشيخه, أو سمع من مشايخ بلدهِ, أو مُشَافهًا مُشاهدًا لشيخه حال الأخذ, أو لا يُجيز الرِّواية, بالمعنى, أو الصَّحابي من أكابرهم, أو علي رضي الله عنه وهو في الأُقْضية, أو مُعاذ, وهو في الحلال والحرام, أو زيد, وهو في الفرائض, أو الإسْنَاد حِجَازي, أو رُوَاته من بلد لا يرضُون التَّدْليس. القِسْم الثَّاني: التَّرجيح بالتحمُّل, وذلك بوجوه: أحدها: الوقت, فيرجح منهم من لم يتحمل بحديث إلاَّ بعد البُلوغ, على من كان بعض تحمُّله قبله, أو بعضه بعده, لاحتمال أن يَكُون هذا مِمَّا قبله, والمتحمل بعده أقوى, لتأهله للضَّبط. ثانيها وثالثها: أن يتحمَّل بحدَّثنا, والآخر عرضًا, أو عرضًا والآخر كِتَابة, أو مُنَاولة, أو وجَادة. القِسْم الثَّالث: التَّرجيح بكيفية الرِّواية, وذلك بوجُوه. أحدها: تقديم المَحْكي بلفظه, على المَحْكي بمعناه, والمُشْكُوك فيه, على ما عرف أنَّه مَرْوي بالمَعْنَى. ثانيها: ما ذُكر فيه سبب ورُوده, على ما لَمْ يَذْكر فيه, لدلالته على اهتمام الرَّاوي به, حيث عرف سببه. ثالثها: أن لا يُنكره راويه, ولا يتردَّد فيه. رابعها إلى عاشرها: أن تَكُون ألفاظه دالة على الاتِّصال, كحدَّثنا, وسمعتُ, أو اتُّفِق على رفْعهِ, أو وصله, أو لم يُختلف في إسناده, أو لم يضطرب لفظه, أو رُوي بالإسناد, وعُزي ذلك لكتاب معروف, أو عزيز, والآخر مشهور. القسم الرَّابع: التَّرجيح بوقت الورود, وذلك بوجوه: أحدها وثانيها: بتقديم المدني على المَكِّي, والدال على عُلو شأن المُصطفَى صلى الله عليه وسلم على الدَّال على الضَّعف: كـ: «بَدَأ الإسْلام غريبًا...». ثمَّ شهرته, فيكون الدَّال على العلو متأخِّرًا. ثالثها: ترجيح المُتضمِّن للتَّخفيف, لدلالته على التأخُّر, لأنَّه صلى الله عليه وسلم كان يغلظ في أوَّل أمره, زجرًا عن عادات الجَاهلية, ثمَّ مال للتخفيف. كذلك قال صاحب «الحاصل» و«المنهاج» ورجَّح الآمدي وابن الحاجب وغيرهما عكسه, وهو تقديم المُتضمِّن للتغليظ, وهو الحق, لأنَّه صلى الله عليه وسلم جَاء أولاً بالإسلام فقط, ثمَّ شُرعت العبادات شيئا فشيئا. رابعها: تَرْجيح ما تحمَّل بعد الإسْلام, على ما تحمَّل قبله, أو شكَّ لأنَّه أظهر تأخرًا. خامسهَا وسَادسها: تَرْجيح غير المُؤرخ, على المُؤرخ بتاريخ مُتقدِّم, وترجيح المُؤرخ بمُقَارب بوفَاته صلى الله عليه وسلم، على غير المؤرخ. قال الرَّازي: والتَّرجيح بهذه السِّتة, أي: إفَادتها للرُّجْحان غير قوية. القِسْمُ الخامس: التَّرجيح بلفظ الخبر, وذلك بوجوه: أحدها إلى الخامس والثلاثين: تَرْجيح الخاص على العام, والعام الَّذي لم يُخصص على المُخصَّص, لضعف دلالته بعد التخصيص, على باقي أفْرَاده, والمُطْلق على ما ورد على سبب, والحقيقة على المَجَاز, والمَجَاز المُشبه للحقيقة على غيره, والشَّرعية على غيرها, والعُرفية على اللُّغوية, والمستغنى على الإضمار, وما يقلُّ فيه اللَّبس, وما اتُّفق على وضعه لمُسمَّاه, والمُومي للعلَّة والمَنْطُوق, ومفهوم المُوافقة على المُخَالفة, والمَنْصُوص على حُكمه مع تشبيهه بمحل آخر, والمُسْتفاد عُمومه من الشَّرط, والجزاء على النكرة المنفية, أو من الجمع المعرف على مَنْ وما, أو من الكلِّ, وذلك من الجنس المعرَّف, وما خطابه تكليفي على الوضعي, وما حُكمه معقول المعنى, وما قدم فيه ذكر العِلَّة, أو دلَّ الاشْتقاق على حُكمه, والمقارن للتهديد, وما تهديده أشد, والمُؤكد بالتكرار, والفصيح, وما بلغة قريش, وما دل على المعنى المُراد بوجهين فأكثر, وبغير واسطة, وما ذكر معه مُعَارضة, كـ: «كنتُ نهيتكُم عن زِيَارة القُبُور فَزُوروهَا». والنص والقول, وقولٌ قارنه العمل, أو تفسير الرَّاوي وما قرن حكمه بصفة, على ما قرن باسم, وما فيه زيادة. القِسْمُ السَّادس: التَّرجيح بالحُكم, وذلك بوجوه: أحدها: تقديم النَّاقل على البراءة الأصلية على المقرر لها, وقيلَ: عكسه. ثانيها: تقديم الدَّال على التَّحريم, على الدَّال على الإبَاحة والوجُوب. ثالثها: تقديم الأحْوط. رابعها: تقديم الدَّال على نفي الحد. القِسْمُ السَّابع: التَّرجيح بأمر خارجي, كتقديم ما وافقه ظاهر القُرآن, أو سُنة أخرى, أو ما قبل الشَّرع, أو القياس, أو عمل الأُمة, أو الخُلفاء الرَّاشدين, أو معه مُرْسل آخر, أو مُنقطع, أو لم يشعر بنوع قدح في الصَّحابة, أو له نظير مُتَّفق على حُكْمه, أو اتَّفق على إخراجه الشَّيْخان. فهذه أكثر من مئة مُرجح, وثَمَّ مُرجحات أُخر لا تَنْحصر, ومثارها غَلَبة الظَّن.
فوائد: الأُولى: منعَ بعضهم التَّرجيح في الأدلة, قياسًا على البينات, وقال: إذا تعارضا لزم التَّخيير أو الوقف. وأُجيبث بأنَّ مالكًا يرى تَرْجيح البينة على البينة, ومن لم ير ذلك يقول: البينة مُستندة إلى توقيفات تعبدية, ولهذا لا تقبل إلاَّ بلفظ الشَّهادة. الثَّانية: إن لم يوجد مُرجح لأحد الحديثين, توقف عن العمل به حتَّى يظهر. الثَّالثة: التعارض بين الخبرين إنَّما هو لخلل في الإسناد بالنسبة إلى ظن المُجتهد, وأمَّا في نفس الأمر فلا تعارض. الرَّابعة: ما سلم من المُعَارضة فهو مُحْكم, وقد عقد له الحاكم في «عُلوم الحديث» بابًا, وعدَّه من الأنواع, وكذا شيخ الإسلام في «النُّخبة». قال الحاكم: ومن أمثلته حديث: «إنَّ أشد النَّاس عذابًا يوم القيامة الَّذين يُشبِّهون بخلق الله». وحديث: «لا يَقْبل الله صَلاةً بغيرِ طهور, ولا صَدَقة من غُلول». وحديث: «إذَا وضِعَ العَشَاء, وأُقيمت الصَّلاة فابدؤوا بالصَّلاة». وحديث: «لا شِغَار في الإسْلام». قال: وقد صنَّف فيه عُثمان بن سعيد الدَّارمي كتابًا كبيرًا.
ومِثَالهُ: ما رَوَى ابن المُبَارك, قال: حدَّثنا سُفيان, عن عبد الرَّحمن بن يزيد, حدَّثني بُسْر بن عُبيد الله, قال: سمعتُ أبا إدْرِيس قال: سمعتُ واثلة يقول: سَمعتُ أبا مَرْثد يقول: سَمعتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تَجْلسُوا على القُبُورِ...» فذكرُ سُفيان وأبي إدريس زيادةُ وَهْم, فالوَهْم في سُفيان مِمَّن دُون ابن المُبَارك, لأنَّ ثِقَاتٍ رَووه عن ابن المُبَارك, عن ابن يزيد. النَّوع السَّابع والثَّلاثون: معرفةُ المزيد في مُتَّصل الأسانيد. ومِثاله ما روى عبد الله ابن المبارك قال: حدَّثنا سُفْيان, عن عبد الرَّحمن بن يزيد, حدَّثني بُسْر بن عُبيد الله بضمِّ المُوحدة وبالمُهملة, وأبوه مُصغَّر قال: سمعت أبا إدريس الخَوْلاني قال: سمعتُ واثلة ابن الأسْقَع يقول: سمعتُ أبَا مَرْثد الغَنَوي يقول: سمعتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تَجْلسُوا على القُبُور ولا تُصلُّوا إليها». فذكرُ سُفيان وأبي إدْريس في هذا الإسْنَاد زيادةُ وَهْم, فالوَهْم في سُفْيان مِمَّن دون ابن المُبَارك, لأنَّ ثِقَات رووهُ عن ابن المُبَارك, عن ابن يزيد نفسه, منهم: ابن مهدي, وحسن بن الرَّبيع, وهنَّاد بن السَّري وغيرهم. ومِنْهم من صَرَّح فيه بالإخْبَار, وفي أبي إدْريس من ابن المُبَارك, لأنَّ ثِقَاتٍ رَوَوهُ عن ابن يزيد فلم يذكُروا أبَا إدْريس, ومِنْهُم من صَرَّح بسَمَاع بُسْر من وَاثلة, وصَنَّف الخَطِيب في هذا كِتَابًا, في كَثيرٍ منهُ نَظَرٌ, لأنَّ الخَالي عن الزَّائد إنْ كَانَ بحرف: عَنْ, فيَنْبغي أن يُجْعلَ مُنقطعًا, وإن صَرَّح فيه بِسَماعٍ أو إخْبَار احتملَ أن يَكُون سَمعهُ من رَجُل عنه, ثمَّ سَمعهُ منه, إلاَّ أن تُوجد قَرِينة تَدُل على الوَهْم, ويُمكن أن يُقَال: الظَّاهر مِمَّن لهُ هذا أن يذكُر السَّمَاعين, فإذَا لم يَذْكُرهما حُملَ على الزِّيادة. ومنهم من صرَّح فيه بالإخبار بينهما و الوهم في أبي إدريس من ابن المبارك, لأنَّ ثقات رَوَوهُ عن ابن يزيد عن بُسْر, عن واثلة فلم يذكُروا أبا إدريس منهم علي بن حُجْر, والوليد بن مسلم, وعيسى بن يونس, وغيرهم. ومنهم من صرَّح بسماع بُسْر من واثلة وقد حكم الأئمة على ابن المُبَارك بالوهم في ذلك, كالبُخَاري وغيره. وقال أبو حاتم الرَّازي: وكثيرًا ما يُحدِّث بُسْر عن أبي إدريس, فغلط ابن المُبَارك, وظنَّ أنَّ هذا مِمَّا رُوي عن أبي إدريس, عن واثلة, وقد سمعَ هذا بُسْر من واثلة نفسه, ثمَّ الحديث على الوَجْهين عند مُسْلم والتِّرمذي. وصنَّف الخَطِيب في هذا النَّوع كتابًا سمَّاه «تمييز المَزِيد في مُتَّصل الأسانيد» في كثير منه نظر, لأنَّ الإسناد الخالي عن الرَّاوي الزَّائد إن كان بحرف: عن ونحوها مِمَّا لا يقتضي الاتِّصال فينبغي أن يُجعل مُنقطعًا ويعل بالإسناد الَّذي ذُكر فيه الرَّاوي الزَّائد, لأنَّ الزِّيادة من الثِّقة مَقْبُولة وإن صَرَّح فيه بسماعٍ أو إخبار أو تحديث احتمل أن يَكُون سمعهُ من رَجُل عنه, ثمَّ سمعهُ منه اللهمَّ إلاَّ أن تُوجد قرينة تَدُل على الوهم كما ذكرهُ أبو حاتم في المِثَال السَّابق. ويُمكن أن يُقال أيضًا: الظَّاهر مِمَّن وقع له هذا أن يذكُر السَّماعين, فإذا لم يَذْكُرهما حُمل على الزِّيادة المَذْكُورة.
هو مُهمٌ عَظيمُ الفَائدة, يُدْركُ بالاتِّساعِ في الرِّوايةِ, وجَمْع الطُّرق مَعَ المَعْرفة التَّامة, وللخَطِيب فيه كِتَابٌ, وهُو مَا عُرفَ إرْسَالهِ لعَدَمِ اللِّقَاء, أو السَّماع. النَّوع الثَّامن والثَّلاثون: المَرَاسيل الخَفِي إرْسَالها أي: انْقطاعهَا. هو فنٌّ مُهمٌّ عظيم الفائدة, يُدرك بالاتِّساع في الرِّواية وجمع الطُّرق للأحاديث مع المعرفة التَّامة, وللخَطِيب فيه كتاب سمَّاه «التفصيل لمُبْهم المَرَاسيل». وأصلُ الإرْسَال ظاهر, كرواية الرَّجُل عمَّن لم يُعاصره, كرواية القاسم بن محمَّد, عن ابن مسعود, ومالك عن ابن المُسيب. وخفي: وهو المَذْكُور ههنا. وهو ما عُرف إرساله لعدم اللِّقاء لمن روى عنه مع المُعَاصرة أو لعدم السَّماع مع ثُبوت اللِّقاء, أو لعدم سَمَاع ذلك الخَبَر بعينه, مع سَمَاع غيره, ويُعرف ما ذكر إمَّا بنصِّ بعض الأئمة عليه, أو بوجه صحيح, كإخباره عن نفسه بذلك في بعض طرق الحديث, ونحو ذلك. كحديث رواه ابن مَاجه, من رِوَاية عُمر بن عبد العزيز, عن عُقبة بن عَامر مرفُوعًا: «رَحِمَ الله حَارس الحَرَس». فإنَّ عُمر لَمْ يلق عُقْبة, كما قال المِزِّي في «الأطراف». وكأحاديث أبي عُبيدة, عن أبيه, عن عبد الله ابن مَسْعُود, فقد روى التِّرمذي أنَّ عَمرو بن مُرَّة قال لأبي عُبيدة: هل تذكُر من عبد الله شيئا؟ قال: لا. ومنهُ ما يحكُمُ بإرْسَالهِ, لمَجِيئه من وجْهٍ آخَرَ بزيادة شخص وهذا القسم مع النَّوع السَّابق يعترضُ بكلِّ واحد منهُمَا على الآخر, وقد يُجَابُ بنحو ما تقدَّم. ومنهُ ما يُحْكم بإرْسَاله, لمَجِيئه من وجه آخرَ بزيادة شخص بينهما, كحديث رواه عبد الرزاق, عن سُفْيان الثَّوري, عن أبي إسْحَاق, عن زيد بن يثيع, عن حذيفة مرفوعًا: «إنْ ولَيتمُوهَا أبَا بَكْر فَقوِّي أمين». فهو مُنْقطع في مَوْضعين, لأنَّه روي عن عبد الرزاق, قال: حدَّثني النُّعمان ابن أبي شَيْبة, عن الثَّوري. ورُوي أيضًا عن الثَّوري, عن شَريك, عن أبي إسْحَاق. وهذا القِسْم مع النَّوع السَّابق وهو المَزِيد في مُتَّصل الأسانيد يعترض بكل منهما على الآخر لأنَّه ربَّما كان الحكم للزَّائد, وربَّما كان للناقص, والزَّائد وهم, وهو يشتبه على كثير من أهل الحديث, ولا يُدْركه إلاَّ النُّقاد وقد يجاب بنحو ما تقدَّم.
وهَذَا علمٌ كبيرٌ عَظيمُ الفَائدةِ, فبهِ يُعرفُ المُتَّصل من المُرْسل, وفيه كُتبٌ كثيرةٌ, ومن أحسنهَا وأكثرها فوائد «الاسْتيعَاب» لابن عبد البر, لولا ما شَانهُ بذكر ما شَجرَ بين الصَّحابة, وحِكَايته عن الأخْبَاريين, وقد جَمَعَ الشَّيْخ ابن الأثِير الجَزَري في الصَّحابة كتابًا حَسَنًا, جمعَ كُتبًا كَثِيرة, وضَبطَ وحقَّق أشْيَاء حَسَنةً, وقد اختصرته بحمد الله. النَّوع التَّاسع والثَّلاثُون: مَعْرفة الصَّحابة رضي الله عنهم. هذا علمٌ كبير جليلٌ, عظيم الفَائدة, فبه يُعرف المُتَّصل من المُرْسل. وفيه كُتب كثيرة مُؤلفة, ككتاب «الصَّحابة» لابن حبَّان, وهو مُختصر في مُجلد, وكتاب أبي عبد الله بن مَنْده, وهو كبير جليل, وذيَّل عليه أبو مُوسى المَدِيني, وكتاب أبي نُعيم الأصْبَهاني, وكتاب العَسْكري. ومن أحسَنها وأكْثَرها فوائد «الاستيعاب» لابن عبد البَر, لولا ما شَانهُ بذكر ما شَجَر بين الصَّحابة, وحكايته عن الأخباريين والغالب عليهم الإكثار والتخليط فيما يروونه, وذيَّل عليه ابن فَتْحُون. قال المُصنِّف زيادة على ابن الصَّلاح: وقد جمع الشَّيْخ أبو الحسن علي بن مُحمَّد بن الأثير الجَزَري في الصَّحَابة كتابًا حسنًا سمَّاه «أُسد الغابة» جمع فيه كتبا كثيرة وهي كتاب ابن منده, وأبي موسى, وأبي نُعيم, وابن عبد البر, وزاد من غيرها أسماء في هذا وضبط وحقق أشياء حسنة على ما فيه من التِّكْرار بحسب الاختلاف في الاسم أو الكنية. قال المُصنِّف: وقد اختصرتهُ بحمدِ الله ولم يشتهر هذا المُخْتصر, وقد اختصرهُ الذَّهَبي أيضًا في كتابٍ لَطِيف سَمَّاه «التجريد» ولشيخ الإسْلام في ذلك «الإصابة في تمييز الصَّحابة» كتاب حافل, وقد اختصرته ولله الحمد.
فائدة: قول المُصنِّف: الأخباريين, جمع أخباري, عدَّه ابن هِشَام من لحن العُلماء, وقال: الصَّواب الخبري, أي: لأنَّ النِّسبة إلى الجمع تُرد إلى الواحد, كما تقرَّر في علم التصريف, تقول في الفرائض: فرضي, ونكتته أنَّ المراد النسبة إلى هذا النَّوع وخُصوصية الجمع مُلغاة, مع أنَّها مؤدية إلى النَّقل. قال: ومن اللَّحن أيضًا قولهم: لا يُؤخذ العلم من صُحفي بضمتين, والصَّواب بفتحتين ردًّا إلى صحيفة, ثمَّ فعل بها ما فعل بحنيفة. فروعٌ: أحدهَا: اخْتُلفَ في حدِّ الصَّحَابي, فالمَعْرُوف عندَ المُحدِّثين أنَّه كل مُسْلم رأى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. فُروعٌ: أحدها: اختلف في حدِّ الصَّحابي, فالمعروف عند المُحدِّثين أنَّه كل مسلم رأى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كذا قال ابن الصَّلاح, ونقله عن البُخَاري وغيره. وأورد عليه: إن كان فاعل الرؤية الرَّائي الأعمى, كابن أمِّ مَكْتُوم ونحوه, فهو صحابي بلا خلاف, ولا رؤية له. ومن رآه كافرًا, ثمَّ أسلم بعد موته, كرسول قَيْصر, فلا صُحبة له. ومن رآه بعد موته صلى الله عليه وسلم قبل الدَّفن, وقد وقع ذلك لأبي ذؤيب خُويلد بن خالد الهذلي, فإنَّه لا صُحبة له. وإن كان فاعلها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم دخل فيه جميع الأمة, فإنَّه كُشف له عنهم ليلة الإسراء وغيرها, ورآهم. وأُوردُ عليه أيضًا: من صحبه, ثمَّ ارتدَّ, كابن خطل ونحوه, فالأوْلَى أن يُقَال: من لَقِي النَّبي صلى الله عليه وسلم مُسْلمًا ومات على إسْلامهِ. أمَّا من ارتدَّ بعده, ثمَّ أسلم ومات مُسلمًا, فقال العِرَاقي: في دخوله فيهم نظر, فقد نصَّ الشَّافعي وأبو حنيفة على أنَّ الردة مُحبطة للعمل. قال: والظَّاهر أنَّها مُحْبطة للصُّحبة السَّابقة, كقُرَّة بن هبيرة, والأشْعَث بن قيس, أمَّا من رجع إلى الإسْلام في حياته, كعبد الله بن أبي سَرْح, فلا مَانعَ من دخوله في الصُّحْبة, وجزمَ شيخ الإسْلام في هذا, والَّذي قبله ببقاء اسم الصُّحبة له. قال: وهل يُشترط لقيه في حال النُّبوة, أو أعم من ذلك حتَّى يدخل من رآه قبلها ومات على الحَنِيفية, كزيد بن عَمرو بن نُفيل, وقد عدَّه ابن منده في الصَّحابة, وكذا لو رآه قبلها, ثمَّ أدرك البعثة وأسلم ولم يره. قال العِرَاقي: ولم أر من تعرَّض لذلك. قال: ويدل على اعتبار الرُّؤية بعد النُّبوة ذكرهم في الصَّحابة ولده إبْرَاهيم, دون من مات قبلها كالقاسم. قال: وهل يُشترط في الرَّائي التَّمييز, حتَّى لا يدخل من رآه وهو لا يعقل, والأطفال الذين حنَّكهُم ولم يروه بعد التَّمييز, أو لا يشترط, لم يذكروه أيضًا, إلاَّ أن العلائي قال في «المراسيل»: عبد الله بن الحارث بن نوفل, حنَّكه النَّبي صلى الله عليه وسلم ودعا له, ولا صحبة له, بل ولا رؤية أيضًا, وكذا قال في عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري: حنَّكه ودعا له, وما تعرف له رؤية, بل هو تابعي. وقال في «النُّكت»: ظاهر كلام الأئمة ابن مَعِين, وأبي زُرْعة, وأبي حاتم, وأبي داود, وغيرهم اشتراطه, فإنَّهم لم يثبتوا الصُّحْبة لأطفال حنَّكهم النَّبي صلى الله عليه وسلم، أو مسح وجوههُم, أو تفلَ في أفواههم, كمُحمَّد بن حاطب, وعبد الرَّحمن بن عُثمان التَّميمي, وعُبيد الله بن مَعْمر, ونحوهم. قال: ولا يُشْترط البُلوغ على الصَّحيح, وإلاَّ لخرجَ من أجمعَ على عدِّه في الصَّحابة, كالحسن, والحسين, وابن الزُّبير, ونحوهم. قال: والظَّاهر اشْتراط رُؤيته في عالم الشَّهادة, فلا يُطلق اسم الصُّحبة على من رآه من الملائكة والنَّبين. قال: وقد استشكلَ ابن الأثَير مُؤمنى الجن في الصَّحابة, دونَ من رآه من الملائكة, وهم أولى بالذِّكر من هؤلاء. قال: وليس كما زعم, لأنَّ الجن من جُملة المُكلَّفين الَّذين شملتهم الرِّسالة والبعثة, فكان ذكر من عُرف اسمه, مِمَّن رآه حسنًا, بخلاف الملائكة. وقال: وإذا نزل عيسى صلى الله عليه وسلم، وحكمَ بشرعهِ, فهل يُطلق عليه اسم الصُّحبة, لأنَّه ثبت أنَّه رآه في الأرض, الظَّاهر نعم. انتهى. وعَنْ أصْحَاب الأصُول, أو بَعْضهم: أنَّهُ من طَالَت مُجَالسته على طريق التَّبَع. وعن أصحاب الأصُول, أو بعضه: أنَّه من طالت مُجَالسته له على طريق التَّبع له والأخذ عنه, بخلاف من وفد عليه وانصرف بلا مُصَاحبة, ولا مُتَابعة, قالوا: وذلك معنى الصَّحابي لُغة. ورُدَّ بإجْمَاع أهل اللُّغة, على أنَّه مُشْتقٌّ من الصُّحبة, لا من قدر منها مَخْصُوص, وذلك يُطلق على كلِّ من صحب غيره, قليلاً كانَ أو كثيرًا, يُقال: صحبتُ فُلانًا حولاً, وشَهْرًا, ويومًا, وساعة. وقولُ المُصنِّف: أو بعضهم, من زيادته, لأنَّ كثيرًا منهم مُوافقون لمَا تقدَّم نقله عن أهل الحديث, وصحَّحه الآمدي وابن الحاجب, وعن بعض أهل الحديث مُوافقة ما ذكر عن أهل الأصُول, لما رواه ابن سعد بسند جيِّد في «الطبقات» عن علي بن محمَّد, عن شُعْبة, عن مُوسَى السَّيلاني قال: أتيتُ أنس بن مالك فقلت له: أنت آخر من بَقِي من أصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قد بَقِي قومٌ من الأعْرَاب, فأمَّا من أصْحَابه, فأنا آخر من بقي. قال العِرَاقي: والجواب أنَّه أراد إثبات صُحْبة خاصة ليست لأولئك. وعَنْ سَعِيد بن المُسَيب: أنَّه لا يُعدُّ صَحابيًا إلاَّ من أقَامَ مع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سنةً, أو سَنَتينِ, أو غَزَا معهُ غَزْوةً, أو غَزْوتينِ, فإن صحَّ عنهُ فضعيفٌ, فإنَّ مُقْتضاهُ أن لا يُعد جَرِير البَجَلي وشبههُ صَحَابيًا, ولا خِلافَ أنَّهم صَحَابةٌ. وعن سعيد بن المُسيب: أنَّه كان لا يعد صحابيا إلاَّ من أقام مع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سَنَة, أو سنتين, أو غزا معهُ, غزوة, أو غزوتين. ووجهه أنَّ لصُحبته صلى الله عليه وسلم شرفًا عَظيمًا, فلا تُنال إلاَّ بإجتماعٍ طويل, يظهر فيه الخُلق المطبوع عليه الشَّخص, كالغزو المُشتمل على السَّفر الَّذي هو قِطْعة من العذاب, والسَّنة المشتملة على الفصول الأربعة, الَّتي يختلف بها المزاج. فإن صحَّ هذا القول عنه فضعيف, فإن مُقتضاه أن لا يُعد جرير بن عبد الله البَجَلي وشبهه مِمَّن فقد ما اشترطه, كوائل بن حُجْر صحابيا, ولا خلاف أنَّهم صحابة. قال العِرَاقي: ولا يصح هذا عن ابن المُسيب, ففي الإسناد إليه محمَّد بن عُمر الواقدي, ضعيف في الحديث. وقال: وقد اعْتُرض بأنَّ جريرًا أسلمَ في أوَّل البِعْثة, لما روى الطَّبراني عنه قال: لمَّا بُعث النَّبي صلى الله عليه وسلم أتيتهُ لأُبايعه, فقال: «لأي شيء جئتَ يا جَرير؟» قال: جئتُ لأسُلم على يديك, فدعَاني إلى: «شَهَادة أن لا إله إلاَّ الله، وأنِّي رَسُول الله، وتقيم الصَّلاة المَكْتُوبة, وتُؤتي الزَّكاة المَفْروضة». الحديث. قال: والجَوَاب: أنَّ الحديث غير صحيح, فإنَّه من رِوَاية الحُصَين بن عُمر الأحمسي, وهو مُنكر الحديث, ولو ثبت فلا دليلَ فيه, لأنَّه لا يلزم الفَوْرية في جوابه, بدليل ذِكْر الصَّلاة والزَّكاة, وفرضهما مُتراخ عن البِعْثة. والصَّواب ما ثبتَ عنهُ أنَّه قال: ما أسلمتُ إلاَّ بعد نُزُول المائدة, رواه أبو داود وغيره, وفي «تاريخ البُخَاري الكبير»: أنَّه أسْلمَ عام توفَّى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وكذا قال الواقدي, وابن حبَّان, والخطيب, وغيرهم.
فائدة: في حدِّ الصَّحَابي قول رابع: أنَّه من طالت صُحبته, وروى عنه, قاله الحافظ. وخامس: أنَّه من رآه بالغًا, حَكَاهُ الواقدي, وهو شاذٌّ كما تقدَّم. وسادسٌ: أنَّه من أدرك زمنه صلى الله عليه وسلم وهو مسلم وإن لم يره, قاله يحيى بن عُثْمان بن صالح المصري, وعُدَّ من ذلك عبد الله بن مالك الجَيْشاني أبا تميم, ولم يرحل إلى المَدِينة إلاَّ في خِلافة عُمر, باتِّفاق أهل السِّير, ومِمَّن حكى هذا القول القَرَافي في «شرح التنقيح». وكذا من حُكم بإسْلامه تبعًا لأبويه, وعليه عمل ابن عبد البر وابن مَنْده في كتابيهما. وشَرطَ المَاوردي في الصَّحابي أن يتخصَّص بالرَّسُول صلى الله عليه وسلم، ويتخصَّص به الرَّسول صلى الله عليه وسلم. ثمَّ تُعرفُ صُحبتهُ بالتَّواترِ والاسْتفَاضة, أو قَوْل صَحَابي, أو قَوْلهِ إذَا كانَ عَدْلا. ثمَّ تُعرف صُحبته إمَّا بالتَّواتر كأبي بَكْر, وعُمر, وبقية العشرة, في خلق منهم. أو الاستفاضة والشُّهرة القاصرة عن التَّواتر, كضِمَام بن ثعلبة, وعكاشة بن محصن. أو قول صَحَابي عنه أنَّه صحابي, كحممة بن أبي حممة الدَّوسي الَّذي مات بأصْبهان مَبْطونًا, فشهدَ له أبو مُوسى الأشْعري, أنَّه سمعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم حكم له بالَّشهادة, ذكر ذلك أبو نُعيم في «تاريخ أصبهان» وروينا قِصَّته في «مسند» الطَّيالسي و«معجم» الطَّبراني. وزاد شيخ الإسْلام ابن حجر بعد هذا أن يُخبر آحاد التَّابعين بأنَّه صحابي, بناء على قَبُول التَّزكية من واحد, وهو الرَّاجح. أو قوله هو: أنا صحابي إذا كان عدلا إذا أمكن ذلك, فإن ادَّعاه بعد مئة سَنَة من وفاته صلى الله عليه وسلم، فإنَّه لا يُقبل, وإن ثبتت عدالته قبل ذلك, لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «أرأيتكُم ليلتكُم هذه, فإنَّه على رأسِ مئة سَنَة لم يبقَ أحدٌ على ظَهْرِ الأرض». يُريد انْخرام ذلك القَرْن, قال ذلك سَنَة وفاته صلى الله عليه وسلم. وشرط الأُصوليون في قبوله أن تُعرف مُعَاصرته له, وفي أصل المَسْألة احتمال أنَّه لا يصدق, لكونه مُتهما بدعوى رُتبة يُثبتها لنفسه, وبهذا جزم الآمدي, ورجَّحه أبو الحسن بن القطَّان.
فائدة: قال الذَّهَبي في «الميزان»: رتن الهندي, وما أدراك ما رتن, شيخٌ دجَّال بلا ريب, ظهر بعد الست مئة, فادَّعى الصُّحْبة, وهذا جريء على الله ورَسُوله, وقد ألَّفت في أمره جُزءًا. الثَّاني: الصَّحَابةُ كلُّهم عُدولٌ, من لابسَ الفِتنَ وغيرهُم, بإجْمَاعِ من يُعتدُّ بهِ. الثَّاني: الصَّحَابةُ كلُّهم عُدولٌ, من لابسَ الفِتنَ وغيرهُم, بإجْمَاعِ من يُعتدُّ بهِ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] الآية, أي: عدولا. وقال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] والخِطَاب فيها للموجُودين حينئذ. وقال صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ النَّاس قَرْني...» رواه الشَّيخان. قال إمام الحرمين: والسَّبب في عدم الفحص عن عدالتهم, أنَّهم حملةُ الشَّريعة, فلو ثبت توقف في روايتهم, لانحصرت الشَّريعة على عصره صلى الله عليه وسلم، ولما استرسلت على سائر الأعصار. وقيلَ: يجب البحثُ عن عدالتهم مُطلقًا. وقيلَ: بعد وقُوع الفِتن. وقالت المُعتزلة: عدولٌ, إلاَّ من قاتل عليًّا. وقيلَ: إذا انفرد. وقيلَ: إلاَّ المُقاتِلُ والمُقَاتَلُ. وهذا كله ليس بصواب, إحسانًا للظَّن بهم, وحملاً لهم في ذلك على الاجتهاد المأجور فيه كل منهم. وقال المازري في شرح البرهان: لسنا نعني بقولنا: الصَّحَابة عدول, كل من رآه صلى الله عليه وسلم يومًا ما, أو زارهُ لماما, أو اجتمع به لغرض وانصرف, وإنَّما نعني به الَّذين لازموه وعزَّروه ونصروه. قال العلائي: وهذا قولٌ غريب, يُخرج كثيرَا من المشهورين بالصُّحبة والرِّواية عن الحُكم بالعدالة, كوائل بن حُجْر, ومالك بن الحُويرث, وعثمان بن أبي العاص, وغيرهم, مِمَّن وفدَ عليه صلى الله عليه وسلم ولم يقم عندهُ إلاَّ قليلاً وانصرف, وكذلك من لم يُعرف إلاَّ برواية الحديث الواحد, ومن لم يُعرف مقدار إقامته من أعراب القبائل, والقول بالتعميم هو الَّذي صرَّح به الجمهور, وهو المعتبر. وأكْثرُهم حديثًا أبو هُريرة, ثمَّ ابن عُمر, وابن عبَّاس, وجَابر بن عبد الله, وأنس بن مالك, وعَائشة. وأكثرهم حديثًا أبو هُرَيرة روى خمسة آلاف وثلاث مئة وأربعة وسبعين حديثًا. اتَّفق الشَّيخان منها على ثلاث مئة وخمسة وعشرين, وانفرد البُخَاري بثلاثة وتسعين, ومسلم بمئة وتسعة وثمانين, وروى عنه أكثر من ثمان مئة رجل, وهو أحفظ الصَّحَابة. قال الشَّافعي: أبو هُريرة أحفظ من روى الحديث في دهره. أسنده البَيْهقي في «المدخل». وكان ابن عُمر يترحَّم عليه في جنازته ويقول: كان يحفظ على المُسلمين حديث النَّبي صلى الله عليه وسلم. رواه ابن سعد. وفي «الصَّحيح» عنه قال: قلتُ يا رَسُول الله إنِّي أسمعُ منكَ حديثًا كثيرًا أنْسَاهُ, قال: أبْسُط رِدَاءكَ, فبَسطتهُ, فغرف بيديه ثمَّ قال: «ضُمَّه» فما نسيتُ شيئًا بعد. وفي «المُسْتدرك» عن زيد بن ثابت قال: كنتُ أنا وأبو هُريرة وآخر عند النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ادعُوا». فدَعوتُ أنا وصَاحبي, وأمَّن النَّبي صلى الله عليه وسلم، ثمَّ دعا أبو هُريرة فقال: اللهمَّ إنِّي أسألك مثل ما سألكَ صاحباي, وأسألك علمًا لا يُنسى, فأمَّن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا: ونحن يا رَسُول الله كذلك, فقال: «سَبقكما الغُلام الدَّوسي». ثمَّ عبد الله ابن عُمر روى ألفي حديث وست مئة وثلاثين حديثًا. وابن عبَّاس روى ألفًا وست مئة وستين حديثًا. وجابر بن عبد الله روى ألفًا وخمس مئة وأربعين حديثًا. وأنس بن مالك روى ألفين ومئتين وستا وثمانين حديثًا. وعائشة أم المؤمنين روت ألفين ومئتين وعشرة. وليس في الصَّحابة من يزيد حديثه على ألف غير هؤلاء, إلاَّ أبا سعيد الخُدْري, فإنَّه روى ألفًا ومئة وسبعين حديثًا.
فائدة: السَّبب في قِلَّة ما رُوي عن أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه مع تَقْديمه وسبقه ومُلازمته للنَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه تقدَّمت وفاته قبل انتشار الحديث, واعتناء النَّاس بسماعه, وتحصيله, وحفظه, ذكره المُصنِّف في «تهذيبه». قال: وجُملة ما رُويَ له مئة حديث واثْنَان وأربعون حديثًا. وأكثرهُم فُتْيا تُرْوَى ابن عبَّاس, وعن مَسْرُوق قال: انْتَهَى علمُ الصَّحَابة إلى ستَّة: عُمر, وعلي, وأُبي, وزيد, وأبي الدَّرداء, وابن مَسْعُود, ثمَّ انْتهَى علمُ السِّتة إلى علي وعبد الله. وأكثرهُم فُتيا تروى عنه ابن عبَّاس قاله أحمد بن حنبل. وعن مسروق أنَّه قال: انتهى علم الصَّحابة إلى ستة: عُمر, وعلي, وأُبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبي الدَّرداء, وابن مسعود, ثمَّ انتهى علمُ السِّتة إلى علي, وعبد الله بن مسعود. ورَوَى الشَّعبي عنهُ نحوه أيضًا, إلاَّ أنَّه ذكر أبا مُوسى الأشْعَري, بدل أبي الدَّرداء, وقد اسْتُشكل بأنَّ أبا مُوسى وزيد بن ثابت تأخَّرت وفاتهما عن ابن مَسْعُود وعلي, فكيفَ انتهى علمُ السِّتة إلى ابن مَسْعُود وعلي؟ قال العِرَاقي: وقد يُجاب بأنَّ المُراد: ضمَّا علمهم إلى علمهما, وإن تأخَّرت وفاة من ذكر. وقال الشَّعبي: كان العلم يُؤخذ عن سِتَّة من أصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عُمر, وعبد الله, وزيد, يشبه علم بعضهم بعضًا, وكان يقتبس بعضهم من بعض, وكان علي والأشْعَري وأُبي يُشبه علم بعضهم بعضًا, وكان يقتبس بعضهم من بعض. وقال ابن حزم: أكثر الصَّحَابة فتوَى مُطلقًا سبعة: عُمر, وعلي, وابن مسعود, وابن عُمر, وابن عبَّاس, وزيد بن ثابت, وعائشة. قال: ويُمكن أن يُجمع من فُتيا كل واحد من هؤلاء مُجلَّد ضخم. قال: ويليهم عشرُون: أبو بَكْر, وعُثمان, وأبو مُوسى, ومُعَاذ, وسعد بن أبي وقَّاص, وأبو هُريرة, وأنس, وعبد الله بن عَمرو بن العَاص, وسَلْمان, وجابر, وأبو سعيد, وطلحة, والزُّبير, وعبد الرَّحمن بن عوف, وعِمْران بن حُصين, وأبو بَكْرة, وعُبَادة بن الصَّامت, ومُعَاوية, وابن الزُّبَير, وأم سلمة. قال: ويُمكن أن يُجمع من فُتيا كل واحد منهم جُزء صغير. قال: وفي الصَّحابة نحو من مئة وعشرين نفسًا يقلون في الفتيا جدًّا, لا يُروى عن الواحد منهم إلاَّ المسألة والمسألتان والثلاث, كأُبي بن كعب, وأبي الدَّرداء, وأبي طَلْحة, والمِقْداد, وسرد البَاقين. ومن الصَّحابة العَبَادلة, وهُمْ: ابن عُمر, وابن عبَّاس, وابن الزُّبير, وابن عَمرو بن العَاص, وليس ابن مسعود منهم. ومن الصَّحابة العَبَادلة وهم أربعة: عبد الله بن عُمر بن الخَطَّاب و عبد الله بن عبَّاس و عبد الله بن الزُّبير و عبد الله بن عَمرو بن العَاص, وليس ابن مَسْعُود منهم قاله: أحمد بن حنبل. قال البَيْهقي: لأنَّه تقدَّم موته, وهؤلاء عاشُوا حتَّى احتيج إلى علمهم, فإذا اجتمعوا على شيء فقيل: هذا قول العَبَادلة. وقيلَ: هُمْ ثلاثة بإسْقَاط ابن الزُّبير, وعليه اقتصر الجَوْهري في «الصِّحاح». وأمَّا ما حكاهُ المُصنِّف في «تهذيبه» عنهُ أنَّه ذكر ابن مَسْعود وأسقطَ ابن العاص فوهم. نعم وقع للرَّافعي في «الديات» وللزَّمخشري في «المُفصَّل» أنَّ العَبَادلة: ابن مسعود, وابن عُمر, وابن عبَّاس, وغلطا في ذلك من حيث الاصطلاح. وكذا سَائرُ من يُسمَّى عبد الله, وهم نحو مئتين وعشرين, قال أبو زُرْعة الرَّازي: قُبضَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عن مئة ألف, وأربعة عشرَ ألفًا من الصَّحابة مِمَّن روى عنه, وسمعَ منهُ. وكذا سائر من يسمَّى عبد الله من الصَّحابة لا يطلق عليهم العبادلة وهم نحو مئتين وعشرين نفسًا, كذا قال ابن الصَّلاح أخذًا من «الاستيعاب» وزاد عليه ابن فتحون جماعة يبلغون بهم نحو ثلاث مئة رجل. قال أبو زُرعة الرَّازي في جواب من قال له: أليس يُقال: حديث النَّبي صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف حديث؟ قال: ومن قال ذا قلقل الله أنيابه, هذا قولُ الزَّنادقة, ومن يُحصي حديث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قُبض رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عن مئة ألف وأربعة عشر ألفًا من الصَّحابة, مِمَّن روى عنه, وسمع منه فقيل له: هؤلاء أين كانوا, وأين سمعوا؟ قال: أهل المدينة, وأهل مَكَّة, ومن بينهما, والأعراب, ومن شهدَ معهُ حجَّة الوداع, كل رآه وسمع منه بعرفة. قال العِرَاقي: وهذا القول عن أبي زُرْعة لم أقف له على إسنادٍ, ولا هو في كُتب التواريخ المَشْهُورة, وإنَّما ذكرهُ أبو مُوسى المَدِيني في ذَيْله بغير إسناد. قلت: أخرجه الخَطِيب بإسناده قال: حدَّثني أبو القاسم الأزهري, حدَّثنا عبد الله بن محمَّد بن محمَّد بن حمدان العكبري, حدَّثنا أبو بكر بن عبد العزيز بن جعفر, حدَّثنا أبو بكر أحمد بن محمَّد الخلاَّل, حدثنا محمَّد بن أحمد بن جامع الرَّازي, سمعتُ أبا زُرْعَة وقال له رَجُل: أليس يقال... فذكره بلفظه. قال العِرَاقي: وقريبٌ منهُ ما أسندهُ المَدِيني عنه قال: توفَّى النَّبي صلى الله عليه وسلم ومن رآه وسمع منه زيادة على مئة ألف إنسان, من رجل وامرأة. وهذا لا تحديد فيه, وكيف يُمكن الاطلاع على تحرير ذلك, مع تفرق الصَّحابة في البُلْدان والبَوَادي والقُرى, وقد رَوَى البُخَاري في «صحيحه»: أنَّ كعب بن مالك قال في قِصَّة تخلفه عن تبوك: وأصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يَجْمعهم كتابٌ حافظ. بمعنى الدِّيوان. قال العِرَاقي: روى السَّاجي في المناقب بسند جيِّد عن الشَّافعي قال: قُبضَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم والمُسْلمون سِتُون ألفًا, ثلاثون ألفًا بالمَدِينة, وثلاثون ألفًا في قبائل العرب, وغير ذلك. قال: ومع هذا, فجميع من صنَّف في الصَّحَابة لم يبلغ مجموع ما في تصانيفهم عشرة آلاف, مع كونهم يَذْكُرون من توفَّي في حياته صلى الله عليه وسلم، ومن عَاصرهُ, أو أدْركهُ صغيرًا. واخْتُلف في عَدَد طَبَقاتهم, وجعلهُم الحاكم اثْنَتي عشرةَ طَبَقةً. واختُلف في عدد طبقاتهم باعتبار السَّبق إلى الإسلام, أو الهجرة, أو شُهود المشاهد الفاضلة, فجعلهم ابن سعد خمس طبقات وجعلهم الحاكم اثنتي عشرة طبقة : الأولى: قومٌ أسلموا بمكَّة, كالخلفاء الأربعة. والثَّانية: أصْحَاب دار الندوة. الثَّالثة: مُهَاجرة الحبشة. الرَّابعة: أصحَاب العَقَبة الأولى. الخَّامسة: أصحاب العقبة الثَّانية, وأكثرهم من الأنصار. السَّادسة: أوَّل المُهاجرين الَّذين وصلوا إليه بقباء قبل أن يدخلوا المدينة. السَّابعة: أهل بدر. الثَّامنة: الَّذين هاجروا بين بدر والحُديبية. التَّاسعة: أهلُ بيعة الرضوان. العاشرة: من هاجر بين الحُديبية وفتح مَكَّة, كخالد بن الوليد, وعَمرو بن العاص. الحادي عشرة: مُسْلمة الفتح. الثانية عشرة: صبيان وأطفال رأوه يوم الفتح, وفي حجَّة الوداع وغيرها. الثَّالثُ: أفضَلُهم على الإطْلاقِ: أبو بَكْر, ثمَّ عُمر رَضِي الله عنهما بإجْمَاع أهل السُّنة. الثَّالث: أفضلهم على الإطْلاقِ: أبو بكر, ثمَّ عمر, رضي الله عنهما بإجماع أهل السُّنة. ومِمَّن حكى الإجماع على ذلك: أبو العبَّاس القُرطبي, قال: ولا مُبَالاة بأقوال أهل التَّشيع, ولا أهل البدع. وكذلك حكى الشَّافعي إجماع الصَّحابة والتَّابعين على ذلك, رواه عنهُ البَيْهقي في «الاعتقاد». وحكى المازري عن الخَطَّابية: تفضيل عُمر, وعن الشِّيعة: تفضيل علي, وعن الراوندية: تفضيل العبَّاس, وعن بعضهم الإمساك عن التفضيل. وحكى الخَطَّابي عن بعض مشايخه أنَّه قال: أبو بكر خير, وعلي أفضل, وهذا تهافت من القول. وحكى القاضي عياض: أنَّ ابن عبد البر وطائفة ذهبوا إلى أنَّ من مات منهم في حياته صلى الله عليه وسلم، أفضل مِمَّن بقي بعده لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنَا شَهيدٌ على هؤلاء». قال المُصنِّف: وهذا الإطلاق غير مرضي ولا مقبول. ثمَّ عُثْمان, ثمَّ عَلي, هذا قول جمهُور أهل السُّنة, وحكى الخَطَّابي عن أهل السُّنة من الكُوفة تَقْديم علي على عُثْمان, وبه قال أبو بَكْر ابن خُزيمة, قال أبو منصُور البَغْدادي: أصحابنا مُجْمعون على أنَّ أفضلهم الخُلفاء الأرْبعة, ثمَّ تمام العَشْرة, ثمَّ أهلُ بَدْر. ثمَّ عُثْمان, ثمَّ علي, هذا قول جمهور أهل السُّنة وإليه ذهب مالك, والشَّافعي, وأحمد, وسفيان الثَّوري, وكافة أهل الحديث والفِقْه, والأشعري, والباقلاني, وكثير من المتكلمين. لقول ابن عمر: كُنَّا في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحدًا, ثمَّ عُمر, ثمَّ عُثمان. رواه البُخَاري. ورواه الطَّبراني بلفظ أصرح كما تقدَّم في نوع المرفوع. وحكى الخَطَّابي عن أهل السُّنة من الكُوفة تقديم علي على عُثمان, وبه قال أبو بكر بن خُزيمة. وهو رواية عن سُفْيان الثَّوري, ولكن آخر قوليه ما سبق. وحكي عن مالك التَّوقف بينهما, حكاه المازري عن المُدونة. وقال القَاضي عياضٌ: رجع مالك عن التوقف إلى تفضيل عُثمان. قال القُرْطبي: وهو الأصح إن شاء الله تعالى. وتوقَّف أيضًا إمام الحرمين. ثمَّ التفضيل عنده, وعند البَاقلاني, وصاحب «المفهم» ظنَِّي. وقال الأشْعري: قطعي. قال أبو منصور عبد القاهر التميمي البغدادي: أصحابنا مُجْمعون على أنَّ أفضلهم الخُلفاء الأربعة, ثمَّ تمام العشرة المشهود لهم بالجنَّة: سعد بن أبي وقَّاص وسعيد بن زيد بن عَمرو بن نُفيل, وطلحة بن عُبيد الله, والزُّبير بن العَوَّام, وعبد الرَّحمن بن عَوْف, وأبو عُبيدة بن الجَرَّاح. ثمَّ أهلُ بدر وهم ثلاث مئة وبضعة عشر, روى ابن ماجه عن رافع بن خديج قال: جاء جبريل إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون من شَهِدَ بدرًا فيكُم؟ قال: «خِيَارنَا» قال: كذلك عندنا هم خيار الملائكة. ثمَّ أُحد, ثمَّ بَيْعة الرِّضْوَان, ومِمَّن لهم مزيةٌ أهل العَقَبتين, من الأنْصَار والسَّابقون الأوَّلُون, وهُمْ من صلَّى إلى القِبْلتين في قَوْل ابن المُسَيب وطائفة, وفي قول الشَّعبي: أهلُ بَيْعة الرِّضْوان, وفي قول مُحمَّد بن كعب وعطاء: أهلُ بَدْر. ثمَّ أهل أُحد, ثمَّ أهل بيعة الرِّضوان بالحديبية, قال صلى الله عليه وسلم: «لا يَدْخُل النَّار أحدٌ مِمَّن بايع تحتّ الشَّجرة». صحَّحه التِّرمذي. ومِمَّن له مزيةٌ أهل العّقَبتين من الأنصار, والسَّابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار وهُمْ من صلَّى إلى القبلتين, في قول سعيد بن المُسيب وطائفة منهم: ابن الحنيفة, وابن سيرين, وقتادة. وفي قول الشَّعبي: أهل بيعة الرِّضوان. وفي قول مُحمَّد بن كعب القُرظي وعطاء بن يَسَار: أهل بدر روى ذلك سُنيد عنهما بسند فيه مجهول وضعيف, وسنيد ضعيف أيضًا. ورَوَى القولين السَّابقين عمَّن ذكر عبد بن حُميد في «تفسيره» وعبد الرزَّاق, وسعيد بن منصور في «سُننه» بأسانيد صحيحة. وروى سُنيد بسند صحيح إلى الحسن: أنَّهم من أسلم قبل الفتح.
فوائد: الأوَّل: وردَ في أحاديث تَفْضيل أعيان من الصَّحابة, كل واحد في أمر مَخْصُوص. فرَوَى التِّرمذي عن أنس مرفوعًا: «أرحم أُمَّتي بأُمَّتي أبو بكر, وأشدُّهم في دين الله عُمر, وأصدقُهُم حياء عُثْمان, وأقْضَاهم علي, وأعْلمهُم بالحَلال والحَرَام مُعاذ بن جبل, وأفْرضهُم زيد بن ثابت, وأقْرَؤهُم أُبي بن كعب, ولُكلِّ أُمَّة أمين, وأمينُ هذه الأُمَّة أبو عُبيدة بن الجَرَّاح». وروى التِّرمذي حديث: «أفْرَضكُم زيد». وصحَّحه الحاكم بلفظ: «أفْرض أُمَّتي زيد». الثَّانية: اختلف في التَّفضيل بين فاطمة وعائشة, على ثلاثة أقوال: ثالثها الوقف, والأصح تفضيل فاطمة, فهي بضعة منه صلى الله عليه وسلم، وقد صحَّحه السُّبكي في «الحلبيات» وبالغ في تصحيحه. وفي «الصَّحيح»: «فاطمة سَيَّدة نساء هذه الأُمة». وروى النَّسائي عن حُذيفة, أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هذا مَلَكٌ من المَلائكة اسْتَأذن ربه ليُسَلِّم عليَّ, وبَشَّرني أنَّ حسنًا وحُسينًا سيَّدا شَبَاب أهل الجنَّة, وأمَّهما سيَّدة نساء أهل الجنَّة». وفي «مسند» الحارث بن أبي أُسامة بسند صحيح, لكنَّه مرسل: «مريم خيرُ نساء عالمها, وفاطمة خير نساء عالمها». ورواه التِّرمذي موصولاً من حديث علي بلفظ: «خيرُ نسائها مريم, وخيرُ نسائها فاطمة». قال شيخ الإسلام: والمُرسل يُفسِّر المُتَّصل. الثَّالثة: أفضل أزْوَاجه صلى الله عليه وسلم خديجة وعائشة. وفي التَّفضيل بينهما أوجه حكاها المُصنِّف في الرَّوضة, ثالثها الوقف. واختار السُّبكي في الحلبيات تفضيل خديجة, ثمَّ عائشة, ثمَّ حفصة, ثمَّ الباقيات سواء. الرَّابع: قيلَ: أوَّلهم إسْلامًا أبو بَكْر, وقيلَ: عَلي. الرَّابع: قيل: أولهم إسلاما أبو بكر الصِّديق, قاله ابن عبَّاس, وحسَّان, والشَّعبي, والنَّخعي في آخرين. ويدلُّ له ما رواهُ مسلم عن عَمرو بن عَبسة في قِصَّة إسْلامه, وقوله للنَّبي صلى الله عليه وسلم: من معك على هذا؟ قال: « حُرٌّ وعبدٌ». قال: ومعهُ يومئذ أبو بَكْر وبلالٌ, مِمَّن آمن به. وروى الحاكم في «المستدرك» من رواية مُجَالد بن سعيد قال: سُئل الشَّعبي: من أوَّل من أسلم؟ فقال: أمَا سمعت قول حسَّان: إذا تذكَّرت شجوًا من أخي ثقة *** فاذْكُر أخاكَ أبا بكر بما فعلا خير البرية أتْقَاها وأعدلها *** بعد النَّبي وأوفاها بما حملا والثَّاني التَّالي المحمود مشهدهُ *** وأوَّل النَّاس منهم صدَّق الرُّسلا وروى الطَّبراني في «الكبير» عن الشَّعبي قال: سألتُ ابن عبَّاس, فذكره. وروى التِّرمذي من رواية أبي نَضْرة عن أبي سعيد قال: قال أبو بكر: ألست أوَّل من أسلم... الحديث. وقيلَ: علي بن أبي طالب, رواه الطَّبراني بسند صحيح عن ابن عبَّاس, وبسند ضعيف عنه مرفوعًا. ورواه التِّرمذي عنهُ من طريق أُخرى موقوفًا. وروى الطَّبراني بسند فيه إسْمَاعيل السُّدي, عن أبي ذرٍّ وسَلْمان قالا: أخذ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بيد علي فقال: «إنَّ هذا أوَّل من آمن بي» ورواه أيضًا عن سَلْمان. وروى أحمد في «مسنده» بسند فيه مجهول وانقطاع عن علي مرفوعًا, وروى بسند آخر عنه قال: أنا أوَّل من صلَّى. ورُوي ذلك أيضًا عن زيد بن أرقم والمِقْداد بن الأسْوَد, وأبي أيُّوب, وأنس, ويعلى بن مُرَّة, وعفيف الكِنْدي, وخُزيمة بن ثابت, وخبَّاب بن الأرت, وجابر بن عبد الله, وأبي سعيد الخُدْري. وروى الحاكم في «المستدرك» من رواية مسلم المُلائي قال: نبئ النَّبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين, وأسلم علي يوم الثُّلاثاء. وادَّعى الحاكم إجْمَاع أهل التاريخ عليه, ونُوزعَ في ذلك. وقال كعب بن زُهير في قَصيدة يمدحهُ فيها: إنَّ عليا لميمون نقيبتهُ *** بالصَّالحات من الأعمال مشهورُ صهرُ النَّبي وخير النَّاس مُفتخرا *** فكل من رامه بالفخر مفخورُ صلَّى الطهور مع الأمِّي أوَّلهم *** قبلَ المعاد وربُّ النَّاس مكفورُ وقيلَ: زيدٌ, وقيلَ: خَديجةُ, وهو الصَّواب عند جَمَاعة من المُحقِّقين, وادَّعى الثَّعلبي فيه الإجْمَاع, وأن الخِلاف فيمن بعدها. وقيلَ: زيد بن حارثة, قاله الزُّهْري. وقيلَ: خديجة أم المؤمنين. قال المُصنِّف زيادة على ابن الصَّلاح: وهو الصَّواب عند جماعة من المُحقِّقين. ورُوي ذلك عن ابن عبَّاس والزُّهْري أيضًا, وهو قول قَتَادة وابن إسْحَاق وادَّعى الثَّعْلبي فيه الإجماع, وأنَّ الخِلاف فيمن بعدهَا. ورواه أحمد في «مسنده» والطَّبراني عن ابن عبَّاس. وقال ابن عبد البر: اتَّفقوا على أنَّ خديجة أوَّل من آمن, ثمَّ علي بعدها, ثمَّ ذكر أنَّ الصَّحيح: أنَّ أبا بكر أوَّل من أظهر إسلامه. ثمَّ رُوي عن محمَّد بن كعب القُرَظي: أنَّ عليا أخفى إسْلامه من أبي طالب, وأظهر أبو بكر إسْلامه, ولذلك شُبِّه على النَّاس. وروى الطَّبراني في «الكبير» من رواية محمَّد بن عُبيد الله بن أبي رافع, عن أبيه, عن جدِّه قال: صلَّى النَّبي صلى الله عليه وسلم غداةَ الاثنين, وصلَّت خديجة يوم الاثنين من آخر النهَّار, وصلَّى علي يوم الثلاثاء. وقال ابن إسْحَاق: أوَّل من آمن خديجة, ثمَّ علي, ثمَّ زيد بن حارثة, ثمَّ أبو بكر, فأظهر إسلامه ودعا إلى الله, فأسلم بِدُعائه عُثمان بن عفَّان, والزُّبير بن العَوَّام, وعبد الرَّحمن بن عَوْف, وسعد بن أبي وقَّاص, وطَلْحة بن عُبيد الله, فكان هؤلاء الثَّمانية الَّذين سبقوا إلى الإسْلام. وذكر عُمر بن شبَّة: أنَّ خالد بن سعيد بن العاص أسْلمَ قبل علي. وقال غيره: إنَّه أوَّلهم إسلامًا. وحكى المَسْعُودي قولاً: أنَّ أوَّلهم خبَّاب بن الأرت, وآخر: أنَّ أوَّلهم بلال. ونقل الماوردي في «أعلام النبوة» عن ابن قُتيبة: أنَّ أوَّل من آمن أبو بكر بن أسعد الحميري. ونقل ابن سبع في الخصائص عن عبد الرَّحمن بن عوف, أنَّه قال: كنتُ أوَّلهم إسلامًا. وقال العِرَاقي: ينبغي أن يُقَال: إنَّ أوَّل من آمن من الرِّجال: ورقة بن نوفل, لحديث «الصَّحيحين» في بدء الوَحْي. والأوْرَعُ أن يُقال: من الرِّجَال الأحْرَار أبو بَكْر, ومن الصِّبْيان علي, ومن النِّساء خَديجة, ومن المَوَالي زيد, ومن العَبِيد بلال, وآخرهم مَوْتًا أبو الطُّفيل, مات سَنَة مئة. قال ابن الصَّلاح وتبعه المُصنِّف: والأورع أن يقال: أوَّل من أسْلم من الرِّجَال الأحرار أبو بكر, ومن الصِّبيان علي, ومن النِّساء خديجة, ومن المَوَالي زيد, ومن العَبِيد بلال. قال البرماوي: ويُحكى هذا الجمع عن أبي حنيفة. قال ابن خالويه: وأوَّل امرأة أسْلمت بعد خَديجة لُبَابة بنت الحارث زوجة العَبَّاس. وآخرهم أي الصَّحابة موتًا مُطلقا أبو الطُّفيل عامر بن واثلة الليثي مات سَنَة مئة من الهجرة. قاله مسلم في «صحيحه» ورواه الحاكم في «المستدرك» عن خليفة بن خيَّاط. وقال خليفة في غير رواية الحاكم: إنَّه تأخَّر بعد المئة. وقيلَ: مات سَنَة اثنتين ومئة. قاله مُصعب بن عبد الله الزُّبيري. وجزم ابن حبَّان, وابن قانع, وأبو زكريا بن منده: أنَّه مات سَنَة سبع ومئة. وقال وهب بن جرير بن حازم, عن أبيه: كنتُ بمكَّة سَنَة عشر ومئة, فرأيتُ جنازة, فسألتُ عنها, فقالوا: هذا أبو الطُّفيل. وصحَّح الذَّهَبي أنَّه سَنَة عشر. وأمَّا كونه آخر الصَّحابة موتًا مُطْلقًا, فجزم به مسلم, ومصعب الزُّبيري, وابن منده, والمِزِّي في آخرين. وفي «صحيح» مُسلم عن أبي الطُّفيل: رأيت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وما على وجه الأرض رجُل رآهُ غيري. قال العِرَاقي: وما حكاهُ بعض المتأخِّرين عن ابن دُريد, من أنَّ عكراش بن ذُؤيب تأخَّر بعد ذلك, وأنَّه عاشَ بعد الجمل مئة سَنَة, فهذا باطلٌ لا أصل له, والَّذي أوقع ابن دُريد في ذلك ابن قُتيبة, فقد سبقهُ إلى ذلك, وهو إمَّا باطل, أو مؤول بأنَّه استكمل المئة بعد الجمل, لا أنَّه بقي بعدها مئة سَنَة. وأمَّا قول جَرير بن حازم: إن آخرهم موتًا سَهْل بن سعد, فالظَّاهر, أنَّه أراد بالمَدينة, وأخذه من قول سهل: لو متُّ لم تسمعُوا أحدًا يقول: قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، إنَّما كان خطابه بهذا لأهل المدينة. وآخِرهُم قَبلَهُ أنَس. وآخرهم موتا قبله أنس بن مالك, مات بالبصرة سَنَة ثلاث وتسعين, وقيلَ: اثنتين, وقيلَ إحدى, وقيلَ تسعين, وهو آخر من مات بها. قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدًا مات بعده, مِمَّن رأى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، إلاَّ أبا الطُّفيل. وقال العِرَاقي: بل مات بعده محمود بن الرَّبيع بلا خلاف في سَنَة تسع وتسعين, وقد رآه صلى الله عليه وسلم وحدَّث عنه, كما في «صحيح» البُخَاري. وكذا تأخَّر عنهُ عبد الله بن بُسر المَازني, في قول من قال: وفاته سَنَة ست وتسعين. وآخر الصَّحابة موتًا بالمدينة سهل بن سعد الأنْصَاري, قاله ابن المَدِيني, والواقدي, وإبراهيم بن المُنْذر, وابن حبَّان, وابن قانع, وابن مَنْده. وادَّعَى ابن سعد نفي الخِلاف فيه, وكانت وفاتهُ سَنَة ثَمَان وثَمَانين. وقيلَ إحدى وتسعين. وقال قَتَادة: بل مات بمصر. وقال ابن أبي داود: بالإسكندرية. وقيلَ: السائب بن يزيد, قاله أبو بكر بن أبي داود, وكانت وفاته سَنَة ثمانين. وقيلَ: جابر بن عبد الله, قاله قَتَادة وغيره. قال العِرَاقي: وهو قولٌ ضعيف, لأنَّ السَّائب ماتَ بالمَدينة بلا خلاف, وقد تأخَّر بعده. وقيلَ: ماتَ بقُباء, وقيلَ: بمكَّة, وكانت وفاته سَنَة اثنتين وسَبْعين, وقيلَ: ثلاث, وقيلَ: أرْبع, وقيلَ: سبع, وقيلَ: ثمان, وقيلَ: تِسْع. قال العِرَاقي: وقد تأخَّر بعد الثَّلاث محمود بن الرَّبيع الَّذي عقلَ المَجَّة, وتوفَّى بها سَنَة تسع وتسعين, فهو إذَنْ آخر الصَّحابة موتًا بها. وآخرهم بمكَّة تقدَّم أنَّه أبو الطُّفيل, وهو قول ابن المَدِيني, وابن حبَّان, وغيرهما. وقيلَ: جابر بن عبد الله, قاله ابن أبي داود, والمشهور وفاتهُ بالمَدِينة. وقيلَ: ابن عُمر, قالهُ قَتَادة, وأبو الشَّيْخ, وابن حبَّان, ومات سَنَة ثلاث, وقيلَ أربع وسبعين. وآخرهم بالكُوفة عبد الله بن أبي أوفى, مات سَنَة ست وثمانين, وقيلَ: سبع, وقيلَ: ثمان. وقال ابن المَدِيني: أبو جُحيفة. والأوَّل أصح, فإنَّه مات سَنَة ثلاث وثمانين. وقد اخْتُلف في وفاة عَمرو بن حُريث, فقيل: سَنَة خمس وثَمَانين, وقيلَ سَنَة ثمان وتسعين. فإن صحَّ الثَّاني, فهو آخرهم موتًا بها. وابن أبي أوْفَى آخر من مات من أهل بيعة الرِّضْوان, رضي الله عنهم. وآخرهم بالشَّام عبد الله بن بُسْر المَازني, قالهُ خلائق, ومات سَنَة ثمان وثمانين, وقيلَ: ست وتِسْعين, وهو آخر من مات مِمَّن صلَّى القِبْلتين. وقيلَ: آخرهم بالشَّام أبو أُمَامة البَاهلي. قاله الحسن البصري, وابن عُيينة, والصَّحيح الأوَّل, فوفاته سَنَة ست وثمانين. وقيلَ: إحدى وثمانين. وحكى الخليلي في «الإرشاد» القولين بلا ترجيح, ثمَّ قال: وروى بعض أهل الشَّام أنَّه أدرك رَجُلاً بعدهما يُقال له الهدار, رأى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهو مجهول. وقيلَ: آخرهم بالشَّام: واثلة بن الأسْقَع, قالهُ أبو زَكَريا بن مَنْده, وموتهُ بدمشق, وقيلَ: ببيت المَقْدس, وقيلَ: بحمص سَنَة خمس وثمانين, وقيلَ: ثلاث, وقيلَ: ست, وآخرهم بحمص عبد الله بن بُسْر. وآخرهم بالجزيرة العُرْس بن عَميرة الكندي. وآخرهم بفلسطين: أبو أُبي عبد الله بن حرام, ربيب عُبَادة بن الصَّامت. وقيلَ: مات بدمشق, وقيلَ: ببيت المَقْدس. وآخرهم بمصر: عبد الله بن الحارث بن جَزْء الزبيدي, مات سَنَة ست وثمانين. وقيلَ: خمس, وقيلَ: سبع, وقيلَ: ثَمَان, وقيلَ: تسع, قاله الطَّحاوي, وكانت وفاته بسفط القدور, وتعرف الآن بسفط أبي تراب. وقيلَ: باليمامة, وقيلَ: إنَّه شهد بدرًا- ولا يصح- فعلى هذا هو آخر البدريين موتًا. وآخرهم باليَمَامة: الهِرْماس بن زِيَاد البَاهلي سَنَة اثنتين ومئة, أو مئة, أو بعدها. وآخرهم ببرقة: رُويفع بن ثابت الأنْصَاري, وقيلَ: بأفريقية, وقيلَ: بأنطابلس, وقيلَ: بالشَّام, ومات سَنَة ثلاث وستين, وقيلَ: سَنَة ست وستين. وآخرهم بالبَادية: سلمة بن الأكوع, قالهُ أبو زكريا بن مَنْده, والصَّحيح أنَّه مات بالمدينة, ومات سَنَة أرْبع وسبعين, وقيلَ: أربع وستين, وهذا آخر ما ذكرهُ ابن الصَّلاح. وآخرهُم بخُراسان: بُريدة بن الحَصِيب. وآخرهُم بسجستان: العَدَاء بن خالد بن هَوْذة, ذكرهما أبو زكريا بن مَنْده. قال العِرَاقي: وفي بُريدة نظر, فإنَّ وفاته سَنَة ثلاث وسبعين, وقد تأخَّر بعده أبو بَرْزة الأسْلمي, ومات بها سَنَة أربع وسبعين. وآخرهم بالطَّائف: ابن عبَّاس. وآخرهُم بأصبهان: النَّابغة الجَعْدي, قاله أبو الشَّيْخ, وأبو نُعيم. وآخرهم بسمرقند: قُثَم بن العبَّاس. الخامسُ: لا يُعرفُ أبٌ وابنه شَهِدَا بدرًا, إلاَّ مَرْثد وأبُوه, ولا سَبْعةُ إخْوَة صَحَابة مُهَاجُرون, إلاَّ بنُو مُقَرِّن, وسيأتون في الإخْوة, ولا أربعة أدْرَكُوا النَّبي صلى الله عليه وسلم مُتوالدُون إلاَّ عبد الله بن أسْمَاء بنت أبي بَكْر بن أبي قُحَافة, وإلاَّ أبو عَتِيق مُحمَّد بن عبد الرَّحمن بن أبي بَكْر بن أبي قُحَافة رَضِي الله عنهم. الخامسُ: لا يُعرف أب وابنه شهدَا بدرًا إلاَّ مَرْثد وأبوه أبو مَرْثد بن الحصين الغَنَوي. قُلتُ: أغرب من هذا ما أخرجه البَغَوي في «معجم الصَّحَابة» قال: حدَّثنا ابن هانئ, حدَّثنا ابن بُكير, حدَّثنا اللَّيث, عن يزيد بن أبي حبيب: أنَّ معن بن يزيد بن الأخنس السلمي شهد هو وأبوه وجده بدرًا. قال: ولا نعلم أحدًا شهد هو وابنه وابن ابنه بدرًا مسلمين, إلاَّ الأخنس. وقال ابن الجَوْزي: لا نَعْرف سبعة إخوة شهدُوا بدرًا مُسْلمين إلاَّ بنو عَفْراء: معاذ, ومُعوِّذ, وإياس, وخالد, وعاقل, وعامر, وعوف. قال: ولم يَشْهدها مُؤمن ابن مُؤمنين إلاَّ عمَّار بن ياسر. قال: ومن غريب ذلك: امرأة لها أربعة إخوة وعمَّان شهدُوا بدرًا, أخَوَان وعم من المُسْلمين, وأخَوَان وعم من المُشْركين, وهي أم أبَان بنت عُتبة بن ربيعة, أخَوَاها المُسلمان: أبو حُذيفة بن عتبة, ومُصعب بن عُمير, والعم المُسلم: مَعْمر بن الحارث, وأخواها المُشْركان: الوليد بن عتبة, وأبو عزيز, والعم المُشْرك: شَيْبة بن ربيعة. ولا يُعرف سبعة إخْوة صحابة مُهَاجرون إلاَّ بنو مُقرِّن, وسيأتون في النَّوع الثَّالث والأربعين في الإخوة وهناك ذكرهم ابن الصَّلاح, ويأتي ما عليه من اعْتراض, فإنَّ أولاد الحارث بن قيس السَّهمي كلهم صَحبُوا وهاجروا, وهم سبعة, أو تسعة. ولا أربعة أدركُوا النَّبي صلى الله عليه وسلم مُتوالدُون إلاَّ عبد الله بن أسماء بنت أبي بكر الصِّديق بن أبي قُحافة, وإلاَّ أبو عتيق محمَّد بن عبد الرَّحمن بن أبي بكر بن أبي قُحَافة رضي الله عنهم. قال شيخ الإسْلام ابن حجر: وقد ذكرُوا أنَّ أُسَامة ولد له في حياة النَّبي صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا يَكُون كذلك, إذ حارثة والد زيد صحابي, كما جزم به المُنْذري في «مُختصر مسلم» وحديث إسلامه في «مستدرك» الحاكم, وكذا زيد وأسامة. قال: وكذا إياس بن سلمة بن عَمرو بن الأكوع, الأربعة ذكروا في الصَّحابة. وطلحة بن مُعاوية بن جاهمة بن العبَّاس بن مِرْداس, في أمثلة أخرى لا تصح.
فوائد: ليس في الصَّحَابة من اسمه عبد الرَّحيم, بل ولا من التَّابعين, ولا من اسمه إسْمَاعيل من وجه يصح, إلاَّ واحد بَصْري, روى عنه أبو بَكْر بن عمارة حديث: «لا يلج النَّار أحدٌ صلَّى قبل طُلوع الشَّمس وقبلَ غُروبها». أخرجه ابن خُزيمة.
|